القضاء الدولي يصدر حكما تاريخيا ضد علي كوشيب مفوض أممي يرحب بإدانة المحكمة الجنائية الدولية لكوشيب الأمم المتحدة: استمرار تدهور الوضع الإنساني في الفاشر المحاصرة الملك سلمان للإغاثة يوزع سلال غذائية للمتضررين من الأمطار بكردفانهيومن رايتس ووتش ترحب بإدانة علي كوشيب
Live Date and Time

التعليم وكسر دائرة الفقر – السودان نموذجا

كتابة: عبد الرحمن رشة

يُعد التعليم أحد أهم أشكال الاستثمار في رأس المال البشري، وهو محرك رئيسي للنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة.  

تشير دراسة للبنك الدولي إلى أن كل سنة إضافية من التعليم للفرد يمكن أن تزيد دخله المستقبلي بنسبة 7-10%، كما أن تحسين التعليم على مستوى الدولة يرفع الإنتاجية ويقلل معدلات الفقر. وأن زيادة سنوات التعليم ترتبط بانخفاض كبير في معدلات الفقر؛ ففي حال أكمل جميع البالغين الدراسة الثانوية، فإن قرابة 420 مليون شخص قد يُخرجون من دائرة الفقر العالمية. 

ورغم هذه الفوائد، يواجه التعليم تحديات كبرى في كثير من البلدان النامية، وخاصة في السودان. 

واقع التعليم في السودان

قبل اندلاع الحرب في ابريل 2023 كان نظام التعليم يعاني أساساً من الفقر وعدم الاستقرار. فحسب تقارير اليونيسف، كان هناك نحو 7 ملايين طفل سوداني خارج المدارس، ومع استمرار الصراع، تفاقمت الأزمة بشكل كبير.  

في أكتوبر 2023 قدر تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) أن 19 مليون طفل سوداني (أي نحو ثلث الأطفال) أصبحوا خارج التعليم بسبب الحرب.  

وأظهر تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونسكو) في أغسطس 2025 أنه من بين 17 مليون طفل في سن الدراسة داخل السودان، لم يعد إلى المدارس سوى 3 ملايين فقط، بينما ظل 14 مليون طفل خارج المدارس.  

من هؤلاء، كان حوالي 6 ملايين طفل محرومين أصلاً من التعليم قبل اندلاع الحرب، ولم يتمكن نحو 8 ملايين طفلاً إضافياً من العودة إلى التعليم بعد اشتداد النزاع. هذا الوضع خلق ما وصفته التقارير بأنه "أسوأ أزمة تعليمية في العالم". 

فقد أغلقت الحرب ما يزيد على 10,400 مدرسة في المناطق المتأثرة، مما حرم الملايين من الأطفال من الخدمات التعليمية الأساسية. 

كما يقدر تقرير يونيسف أن انقطاع التعليم سيؤدي إلى خسائر اقتصادية جسيمة على المدى الطويل، حيث سينجم عن ذلك فقدان 26 مليار دولار من إجمالي الدخل الممكن تحقيقه لأجيال الطلاب المتضررين بالحرب. 

المعلمون وتدنى الأوضاع المعيشية

في هذا السياق، يشكو المعلمون والطلاب من تدني الأوضاع المعيشية وضعف الدعم الحكومي للقطاع التعليمي. 

فدراسة أجرتها «لجنة المعلمين السودانيين» أكدت أن جميع العاملين في التعليم يعيشون تحت خط الفقر المدقع (دخله أقل من 1.9 دولار يومياً) فإذا كانت قيمة المعيشة الشهرية لأسرة من خمسة أفراد تبلغ نحو 1.65 مليون جنيه سوداني (~485 دولار)، فإن المعلم المبتدئ (على الدرجة الوظيفية التاسعة) لا يتقاضى سوى 28.8 ألف جنيه فقط (نحو 9 دولارات) شهرياً. 

وحتى المعلم الخبير بعد 30 سنة خدمة لا يزيد راتبه عن حوالي 96 ألف جنيه (~30 دولار) شهرياً. 

نتيجة لذلك، يواجه التعليم الحكومي أزمة مزدوجة: ضعف التمويل وتدهور البنية التحتية. فتشتكي المدارس الحكومية من عجز كبير في المقاعد والأثاث، ونقص المساعدات التعليمية، بالإضافة إلى عدم انتظام رواتب المعلمين. 

وفي ظل هذا الواقع، انتقل عدد كبير من المعلمين إلى الوظائف غير التعليمية. وأدت الحرب إلى نزوح وتشريد ملايين السودانيين داخل البلاد وخارجها. 

وتشير التقارير إلى أن نحو 3 ملايين طفل سوداني أصبحوا في مخيمات اللجوء ببلدان الجوار وغيرهم، مما يجعل تعليمهم مهدداً بشدة ويعزز دوامة الفقر لأسرهم وأوطانهم. 

التأثير المتبادل بين التعليم والفقر

إن الفقر يلعب دوراً أساسياً في شل القدرة على الالتحاق بالتعليم والتقدم فيه. فقد وجدت دراسة للبنك الدولي أن الفقر يُعدُّ العامل الرئيسي وراء عدم التحاق الأطفال بالمدرسة في السودان. 

فبالرغم من السياسات التي تمنح التعليم الأساسي مجاناً رسمياً، إلا أن الإنفاق الأسري على التعليم يبقى عائقاً كبيراً، خصوصاً للأسر الفقيرة. 

كما أن المستوى التعليمي للآباء والأمهات له تأثير قوي: فالأطفال الذين تحظى أسرهم بتعليم أعلى كانوا أكثر ميلاً للانتظام في المدارس، وأشارت التحليلات إلى أن الإنفاق الحكومي على التعليم السوداني ضعيف نسبياً، وأن النظام التعليمي يحقق نتائج دون التوقعات مقارنةً مع دول ذات دخل مماثل. 

من جهة أخرى، يعزز التعليم الفقر إذا بقي ضعيفاً أو منقطعاً. فالانقطاع الطويل للأطفال عن المدرسة يساهم في ترسيخ الفقر بين الأجيال، حيث يُسهم في تهميشهم الاجتماعي والاقتصادي. 

وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على سبيل المثال، يُشكل عدم إكمال التعليم أحد أبرز أسباب استمرار الفقر بين العائلات.   

وتظهر دراسة للبنك الدولي أن كل 100 طفل محروم من التعليم يؤدي الى خسارة محتملة أكثر من مليار دولار من الدخل المحتمل مدى حياتهم. وبشكل عام، أن الاستثمار في التعليم يؤدي إلى نمو اقتصادي قوي، ويوفر لأفراد المجتمع المهارات اللازمة للحصول على وظائف أفضل وتجنب المهن الأشد فقراً.

ولذلك، فإن عدم معالجة أزمة التعليم بالسودان سيعني تضخيم دائرة الفقر بدلاً من كسرها. 

التحديات والفرص

  • النزاع المسلح وانعدام الأمن: استمرار الحرب أدى إلى تدمير المدارس وتعطيل العملية التعليمية في مناطق واسعة كما أجبرت العمليات العسكرية الأطفال على الهروب مع أسرهم، مما قطع التعليم عن شريحة كبيرة من النازحين داخلياً أو في مخيمات اللجوء.
  • ضعف التمويل وارتفاع تكاليف المعيشة: نقص الميزانيات الحكومية الموجهة للتعليم، وتراجع قيمتها الشرائية بسبب التضخم، يجعلان الأسر الفقيرة عاجزة عن توفير الكُتب والزي المدرسي، أو حتى أحياناً دفع رسوم رمزية، وفي الوقت ذاته، لا تغطي دخول المعلمين ولو أساسيات الحياة اليومية.
  • تدهور البنية التحتية التعليمية: تعاني المدارس الحكومية من نقص شديد في المباني والمقاعد والأدوات التعليمية. العديد من المدارس متهالكة وحُرِمت من الصيانة والأثاث، بل إن أطفالاً يستخدمون أماكن غير صالحة للدراسة. هذا النقص في التجهيزات يرفع معدلات التسرب ويسهم في إضعاف جودة التعليم.
  • المشاكل الاجتماعية والثقافية: أجبرت الظروف الاقتصادية بعض الأسر الى إجبار أبنائها الصغار على العمل لدعم العائلة. قد يؤدي هذا الانقطاع عن التعليم إلى تعمق الفقر في المجتمع على المدى الطويل.
  • السياق السياسي والإداري: يشكو البعض من أن التركيز السياسي على الصراع الحالي دون وضع أولويات واضحة للتنمية الاجتماعية أدى إلى تفاقم الأزمات التعليمية والصحية دون تخطيط مناسب. ويشير المعلمون إلى عودة عناصر من النظام السابق إلى إدارات التعليم، وتوزيعهم الموارد بالفساد، مما يزيد الوضع سوءاً.
  • الفرص الاقتصادية لتحسين التعليم في مواجهة هذه التحديات، تظهر بعض المبادرات فرصاً لكسر الحلقة المفرغة. ففي أغسطس 2025، أطلقت اليونسكو خطة انتقالية للتعليم بميزانية تبلغ 400 مليون دولار بهدف إعادة دمج 80% من الأطفال المتسربين من التعليم نتيجة الحرب.    

تشمل الخطة تحسين المناهج وتوفير بيئة تعليمية آمنة والتركيز على الفتيات والنازحين والفئات الأكثر هشاشة. كما تزايدت جهود المجتمع المدني والمنظمات الدولية لدعم التعليم الإغاثي مثل التعليم بالمراكز المجتمعية وبرامج التغذية المدرسية ودورات محو الأمية للكبار. 

ومن البديهي أن يتحقق كسر "دائرة الفقر" فقط إذا توفرت إرادة حقيقية للاستثمار في التعليم. والاستثمار في رأس المال البشري (التعليم والصحة) هو الطريق الأساس لتحقيق التنمية المستدامة والقضاء على الفقر المدقع.  

ولذا، يجب على السودان أن يرفع من إنفاقه على التعليم، ويحسن رواتب المعلمين، ويوفر الحوافز اللازمة لاستمرار الأطفال في الدراسة. 

كذلك ينبغي تعزيز الشراكات مع القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية لإصلاح البنية التحتية وتجهيز المدارس. ويظل التوعية المجتمعية والتغيير في النظرة إلى التعليم عاملًا مهمًا في هذا التحول. 

ختاماً، يعتبر التعليم منقذاً للحياة في أوقات الأزمات، فحماية تعليم الأطفال تعني حماية مستقبلهم ومستقبل السودان. ولن يتحقق هذا إلا بتوحيد الجهود وتحمّل المسؤولية بعيداً عن الخلافات السياسية، وإدراك أن هذه حياة جيل كامل.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.